أبرز المشاركين

  • أ. د. نادية مصطفى
    أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة

  • د. عبد العزيز كامل
    الكاتب والمفكر الإسلامي والمحاضر السابق بجامعة الملك سعود

  • المستشار محمد ناجي دربالة
    نائب رئيس محكمة النقض المصرية سابقًا وعضو الجمعية التأسيسية للدستور المصري ٢٠١٢

  • د. شريف عبد الرحمن
    الأستاذ بكلية
     الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة

  • أ. د. أحمد التهامي
    أستاذ العلوم السياسية بكلية الدراسات الاقتصادية والعلوم السياسية بجامعة الإسكندرية

  • المستشار د. محمد وفيق زين العابدين
    القاضي بالمحاكم المصرية سابقًا ومدير المعهد الدولي للإنسانيات والعلوم الاجتماعية

  • م. حسن الرشيدي
    مدير المركز العربي للدراسات الإنسانية بالقاهرة، ونائب رئيس تحرير “التقرير الاستراتيجي”

  • أ. مدحت ماهر
    المدير التنفيذي لمركز الحضارة للدراسات والبحوث، وباحث الدكتوراه في الفكر السياسي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة

  • د. حورية مصطفى
    أستاذ
     الأنثروبولوجيا الثقافية بكلية الدراسات الأفريقية العليا بجامعة القاهرة

  • شيماء بهاء الدين
    باحثة علوم سياسية بمركز الحضارة للدراسات والبحوث

إعداد: محمد جمال علي

على مدار ستة أيام خلال شهر يناير لعام 2018 نظم مركز أركان للدراسات والأبحاث والنشر، وفي مستهل نشاطاته البحثية، سيمنارًا بحضور عدد من المفكرين والأكاديميين والباحثين لمناقشة الأوراق التي أعدها بعض الباحثين بالمركز، في إطار مشروع بحثي حول تجارب تيارات الإسلام السياسي في الحكم التي شهدها العالم الإسلامي منذ سقوط الدولة العثمانية؛ وذلك بهدف الوصول لرؤية تقييمية لهذه التجارب واكتشاف ما قدمته من نماذج في تطبيق المرجعية “الإسلامية” في “السلطة” و”الدولة” و”سياسات إدارة الشأن العام” في العالم المُعاصر؛ ومن ثمَّ بيان ما أرادت هذه التجارب تحقيقه وما تمكنت فعليًا من الوصول إليه وما يُمكن أن تسعى إليه مستقبلًا في ضوء الخبرة السابقة، إلى جانب إبراز نقاط الاتفاق وعناصر التمايز بين التجارب المختلفة.

في اليوم الأول، طرحت د. “نادية مصطفى” أهم الإشكاليات الفكرية المُتعلقة بمسألة تجارب الإسلاميين و الإسلام السياسي في حكم الدولة الحديثة، وتتمثل في العلاقة بين الديني والسياسي والعلاقة بين الدعوي والسياسي ومسألة إدارة الحكم “الإسلامي” للتعددية وتفاعله معها، والعلاقة بين الحركات الإسلامية والمجتمعات، وتصور الإسلاميين لترسيخ القيم الإسلامية في هذه المجتمعات، وهل الإسلامي لديهم يقتصر على الشكلي والظاهري فقط أم القيمي الأخلاقي؟ وهل يقوم هذا التصور على بناء الإنسان أم قهره بفرض أشكال معينة من التدين عليه وفق أفهام مُختلفة؟ وما المعيار الذي نُقيّم من خلاله التجارب ونحكم عليها بالنجاح والفشل؟

وأشار د. “شريف عبدالرحمن” إلى إشكالية معرفية أخرى في طريقة تفكير الحركات والتيارات الإسلامية المختلفة، وهي إشكالية “النبوءة المحققة لذاتها” أو إشكالية “النبوءة والسياسة” لدى الحركات الإسلامية؛ حيث تدفع هذه النبوءة المؤمنين بها إلى اتخاذها محورًا لتحركاتهم السياسية وخياراتهم الواقعية؛ وذلك على غرار اليمين المسيحي في الغرب والذي يسعى لاستعجال معركة آخر الزمان بوضع إسرائيل في قلب فلسطين وغير ذلك، ويرى د. “شريف” أن الكثير من التيارات الإسلامية الآن تتبع سَنَن هذا اليمين المسيحي وتسعى لتغيير الواقع وتكييفه مع نبوءات معينة ينتظرون تحقيقها؛ ومثال على ذلك تنظيم الدولة “داعش” الذي خاض معركة دابق وهو متوقع أنها معركة آخر الزمان، وكذلك الحال بالنسبة لجهيمان العتيبي الذي ظن أنه المهدي المنتظر وكان يسير في مرمى النيران وهو موقن بأنه لن يموت لأنه المهدي المنتظر، وكذلك الحال بالنسبة للكثير من المنتمين لحركة طالبان الذين ظنوا أنهم هم أصحاب الرايات السود.

وأشار أ. “مدحت ماهر” إلى إشكالية أخرى تتعلق بالتفرقة بين “المرجعية” و”الفاعلية”، مؤكدًا أن الهم الأكبر لأصحاب الفكر الإسلامي الساعين لتطبيق الإسلام السياسي منذ مطلع القرن العشرين كان إيجاد المرجعية الإسلامية أو الدفاع عنها مع إهمال “فاعلية” هذه المرجعية؛ فنجد كثيرًا من التجارب أعلنت مرجعيتها الإسلامية بينما هي ضعيفة ومريضة وغير قادرة على تقديم أي إسهام حضاري يُذكر.

ومع ذلك، تظل تدعي أنها إسلامية وتظل يُشار إليها كتجربة “إسلامية” دون النظر لفاعليتها من عدمها، وهو ما قد يئول إلى التشكيك في المرجعية الإسلامية وقدرتها على صنع الحضارة الإنسانية من الأساس، وبالتالي فإننا نحتاج إلى صك مفهوم جديد يُعبر عن تجارب “الحكم الإسلامي” الضعيفة وغير الفاعلة دون نسبة النقص إلى الإسلام أو المرجعية الإسلامية ذاتها.

كما أشار أ. “ماهر” إلى أن ثمة عددًا من الثنائيات التي تتحرك الحركات الإسلامية في إطارها، وهي ثنائيات يجب إداراكها أثناء تحليل ودراسة هذه الحركات وتجاربها في الحكم، ومن هذه الثنائيات ثنائية الاجتماعي والسياسي، فأغلب الحركات الإسلامية في القرن العشرين بدأت اجتماعية ودعوية ثم تحولت لاحقًا إلى العمل السياسي لتصطدم بمشكلات خاصة بهويتها الدعوية أو السياسية، وثنائية الإدراك العميق للمشكلات الاجتماعية في مقابل الإدارك السطحي لها، وكذلك ثنائية الحلول والآليات الجادة للتغلب على هذه المشكلات في مقابل الشعارات البراقة التي تؤجل الحلول والسياسات إلى وقت غير معلوم، وثنائية الاستبداد والعلمانية وأولوية المواجهة هل تكون للاستبداد أم للعلمانية؟، وأكد أن الحركة الإسلامية عبر تاريخها فضّلت مواجهة العلمانية وتأجيل مواجهة الاستبداد، بينما كان الواجب مواجهة كلا الطرفين لأن أغلب ما يواجهه العالم الإسلامي من استبداد هو استبداد علماني بالأساس.

وتحدث د. “عبدالعزيز كامل” عن ضرورة وجود “نموذج معياري” مبني على أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها من أجل استخدامه كمنظار لتقييم التجارب المختلفة التي تدّعي التمسك بالمرجعية الإسلامية وتسمى الإسلام السياسي، وهذا النموذج له وجهين عملي ونظري؛ فالوجه العملي متمثل في تجربة دولة الإسلام الأولى في عهد النبوة، وهو نموذج قام واستمر وبقدر القرب منه كان النجاح أو الفشل عبر التاريخ الإسلامي، أما النموذج النظري الذي يحتاج إلى معاصرة وتحديث ومواءمة مع الواقع هو ما اصطلح على تسميته بـ “المشروع الإسلامي” فالتجارب الإسلامية بلا استثناء لم تملك مشروعًا إسلاميًا نظريا متكاملًا أو تصورًا كاملًا لإدارة الدولة، وإنما هي فقط سعت إلى السلطة بأسباب مختلفة وعندما تمكنت من ذلك لم تتمكن من التعامل مع الواقع بشكل متكامل على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والعسكرية وغيرها.

كما أكد د. “عبد العزيز” على أهمية إحصاء القواسم المشتركة بين التجارب “الإسلامية” المختلفة كمدخل هام لبناء هذا النموذج المعياري، ومن أهم هذه القواسم مسألة غياب المشروع كما ذكرنا من قبل، ومسألة الموقف الدولي من تجربة الإسلام السياسي الذي ينتج عنه غالبًا قصر مدتها وعدم إتاحة الوقت الكافي أمامها لكي تصل لمرحلة من النضوج تتمكن خلالها من تقديم إسهامات حضارية مؤثرة، ومسألة توظيف هذه التجارب لصالح القوى الدولية المختلفة بعلم الإسلاميين أو بدون علمهم؛ حيث تقوم هذه القوى في كثير من الحالات باستخدام الحركات الإسلامية كـ “العصا” تضرب بها ثم تقوم بتكسيرها لاحقًا.

وفيما يتعلق بمسألة توظيف التجارب لصالح القوى الدولية الكبرى اقترح د. “شريف” استخدام فكرة “القابلية للتلاعب” لدى الحركات الإسلامية المختلفة كمدخل نظري لتقييم أداء هذه الحركات وتجاربها في الحكم وفقًا للنموذج المعياري المُقترح، حيث يُخيل لكثير من الحركات والتيارات الإسلامية أنها تتصرف وفقَ إرادتها وأفكارها المستقلة بينما هي في الحقيقة تتصرف وفقًا لإرادة القوى الدولية المهيمنة، وهذا ما نكتشفه بعد التحليل المُعمق لأدائها وسياساتها في ضوء السياق الدولي والإقليمي المُحيط.

وأكدت د. “نادية مصطفى” أن مثل هذا النموذج المعياري للإسلام السياسي لا يجب أن يستهدف توحيد التصور لدى الجميع عن الحكم الإسلامي وغير ذلك؛ حيث ينبغي تجنب القوالب الجامدة وأن تكون لدينا تصورات متعددة ومختلفة حتى لو كانت منطلقة من مرجعية واحدة، كما يجب الترحيب بهذا التعدد والتنوع وقبوله، وفي هذا السياق أكدت أن التجارب “الإسلامية” المختلفة تتباين تبعًا لتعدد المدارس العلمية والفكرية التي تنشأ فيها هذا التجارب وفقًا للبيئة المُحيطة بها؛ فطبيعة المدارس الشرعية في الهند وباكستان وأفغانستان تختلف عن نظيراتها في تركيا وتختلف عن نظيراتها في الجزيرة العربية، كما تختلف مدارس المشرق العربي عن مدارس المغرب العربي وغير ذلك؛ ومن ثمَّ فإن طبيعة المدارس الشرعية المتعددة بتعدد البلدان وتنوع الثقافات تعتبر من أهم مؤشرات تقييم التجارب ومن أهم مداخل فهم أدائها بصورة صحيحة.

وتأكيدًا على ما قالته د. “نادية” أشار د. “عبد العزيز” إلى الخلاف العقدي والفقهي بين حركة طالبان تبعًا لانتمائها للمدرسة الديوبندية – التي تتبنى المذهب الماتوريدي عقيدةً والمذهب الحنفي فقهًا – وبين المجاهدين العرب الذين ينتمون إلى المدرسة السلفية لانتماء أغلبهم إلى الجزيرة العربية وتأثرهم بدعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب؛ ولعل من أهم ملامح تأثير هذا الخلاف العقدي والفقهي على الخيارات السياسية والحركية إصرار الملا عمر قائد حركة طالبان حتى آخر وقت على المطالبة بمقعد لأفغانستان بالأمم المتحدة وسعيه لبناء علاقات خارجية متوازنة وكسر العُزلة الدولية التي فُرضت على حكمه، وهو أمر كان مثار انتقادات كثير من الجهاديين الرافضين للاعتراف بالشرعية الدولية وسلوك المسارات السياسية الطبيعية في إطار النظام الدولي القائم.

ومن هنا أكد د. “عبد العزيز” على أهمية امتلاك الباحثين في العلوم الاجتماعية للثقافة الدينية والشرعية الكافية التي تؤهلهم لفهم مثل هذه التفاعلات الخاصة بتجارب التيارات الإسلامية المختلفة ومنطلقاتها الفكرية؛ حيث لا يتمكن الباحث – بدون هذه الثقافة – من فهم سلوكيات هذه التيارات أو وضعها في سياقها الصحيح دون فهم كاف للمصطلحات الشرعية ومبادئ العلوم الفقهية؛ فينتج عن ذلك تحليلات مشوهة لا تمت للواقع بصلة.

وأشار د. “شريف” إلى متغير آخر فيما يتعلق بالتكوين الفكري لحركة طالبان واختلافه عن حركات الإسلام السياسي الأخرى؛ حيث نشأت الحركة وترعرعت في ظل الدولة وبدعم منها، فلم تخرج عن الإطار القومي الذي حمل نفس مفاهيم الدولة الحديثة من سيادة القانون وغير ذلك، وبالتالي يبدو أن هناك تأثيرًا ما لهذه النشأة “الدولتية” لحركة طالبان في أفكارها خاصة فيما يتعلق بإعادة تأويل لمفاهيم شائعة لدى حركات الإسلام السياسي مثل مفهوم “الهجرة” ومفهوم “الطليعة” وغير ذلك، وربما ليست لديهم مشكلة كبيرة في أن يكونوا “مستوعَبين” داخل الأطر الدولية المُعترف بها، وهو أحد أسباب قبولها للتفاوض وممارسة السياسة بشكل غير راديكالي حتى الآن.

وفي المقابل اعترضت د. “نادية” على اعتبار أفغانستان دولة قومية حديثة بالمعنى المتعارف عليه، وأبدت عدم اتفاقها مع طرح د. “شريف” الخاص بنشأة حركة طالبان في الإطار القومي وأن لذلك تأثيرًا ما في تكوين الحركة الفكري، كما أكد أ. “مدحت ماهر” أن التوجه الرئيسي في السياسة الخارجية لحركة طالبان كان توجهًا صداميًا يعتمد على القوة بصورة رئيسية، لا ممارسة الإسلام السياسي في إطار الشرعية الدولية، فضلًا عن تحمّل طالبان نتائج ممارسات تنظيم القاعدة نظرًا للانسجام الكبير بين التنظيمين وإصرار طالبان على الحفاظ على الارتباط بالقاعدة، ومع ذلك لم ينف أ. “ماهر” وجود استعداد كامن لدى حركة طالبان من أجل التفاوض وممارسة السياسة بشكل عقلاني، مستشهدًا بما ذكره كل من د. نصر فريد واصل ود. يوسف القرضاوي عقب عودتهما من زيارة أفغانستان ولقائهما بقيادات حركة طالبان؛ حيث طالبا المجتمع الدولي بالصبر على الحركة وأكدا استعدادها للتفاوض والتفاهم نظرًا لتمتع قادتها بقدر من الاتزان الفكري خلافًا للتيارات الجهادية الأخرى، كما أكدا على أن التوجه الصدامي لسياساتهم إنما هو نابع في الأساس من التحفز الدولي ضدها.

وأشار د. “محمد وفيق زين العابدين” إلى أن بداية تجربة طالبان لم تكن كنهايتها، وأن مؤشرات النضوج ظهرت بمرور الوقت على أدائها وتصوراتها السياسية والاجتماعية، وأنه لو أُتيحت لها الفرصة لكان بإمكانها تقديم نموذج مختلف بشكل كبير عما انتهت إليه التجربة خلال فترة حكمها القصيرة، كما أكد د. “شريف عبدالرحمن” على ذلك بقوله إن أغلب التجارب التي أُسقطت لم يتم إسقاطها لأنها فشلت ولكن لأنها كان يمكن أن تنجح.

وبصدد النموذج السعودي، قالت د. “نادية مصطفى” أن مراحل نشأته الأولى تُحيلنا إلى التفكير بشأن الإشكالية البحثية التي تم طرحها في بداية النقاش والمتمثلة في العلاقة بين الدعوي والسياسي، أو بين القوة السياسية والعسكرية والتيار الديني والدعوي، وأيهما يجب أن يستحوذ على الآخر ويستخدمه لخدمة أهدافه ومصالحه، فنشأة المملكة من خلال تحالف وهابي سعودي وتطورات هذا التحالف حتى الآن له دلالات هامة على طبيعة العلاقة بين الدعوي والسياسي في التحركات الإصلاحية والثورية المختلفة؛ حيث يثبت لدينا أن النموذج الأرشد هو الذي تتحرر فيه الدعوة من قبضة الدولة ويكون لها سلطانها المجتمعي القادر على تمكين المجتمع من التفاعل ذاتيًا ومراقبة العلماء لا أن تكون الدعوة مُستوعَبة في أجهزة الدولة ومؤسساتها.

وفي هذا السياق، أشار أ. “مدحت ماهر” إلى النقد الحاد الذي وجهه ابن خلدون لأصحاب الدعوات الذين يريدون تأسيس دول لدعواتهم من خلال الثورات؛ مؤكدًا أنهم لا يجيدون إلا تهييج العامة والغوغاء والزج بهم في مواجهات خطيرة تُدمر البلاد والعباد.

كما أشار د. “شريف عبد الرحمن” إلى مقولة د. عزمي بشارة بأن العلمانية ليست فصل الدين عن الدولة ولكنها إخضاع الدين للدولة، ويعني ذلك أن عملية تحرير الدين من الدولة ومؤسساتها تُعتبر عملية مضادة للعلمنة، وأن عملية إخضاع الدين للدولة ولو باسم نصرة الدين وتطبيقه في البدايات تئول غالبًا إلى نوع من العلمنة التي لا يكون الدين فيها حاكمًا على الدولة ولكن تكون الدولة متحدثًا باسم الدين ومُحتكرًا له.

وأضافت د. “نادية” أيضًا أن النموذج السعودي يدفعنا إلى التفكير بشأن موقف القوى الدولية الكبرى من الإسلام والمشروعات الإسلامية المختلفة، وتهدم أسطورة أن الغرب لا يحمل همًا سوى محاربة الإسلام ومنع قيام أشكال إسلامية للدولة في العالم الحديث؛ وإنما يُثبت أن الغرب قد يقبل المشروعات الإسلامية بل ويدعمها طالما هي لا تُمثّل له تهديدًا حضاريًا أو سياسيًا أو عسكريًا وطالما يمكنه توظيفها بما يخدم استقرار نظام الهيمنة الغربي على العالم؛ بل يتعدى الأمر ذلك حيث تقوم هذه النماذج المدعومة غربيًا بالدفاع عن نفسها في مواجهة أي نموذج إسلامي آخر يسعى لاكتساب الثقة وتقديم نماذج إسلامية أكثر انفتاحًا وديموقراطية على غرار النموذج التركي، وقد ظهر ذلك بجلاء في موقف النموذج السعودي من النماذج الصاعدة للإسلام السياسي في مصر ودول الربيع العربي.

وأشار د. “عبد العزيز كامل” إلى إشكالية “إسقاط النموذج” مؤكدًا أن القوى الكبرى عندما تسعى إلى إفشال نموذج إسلامي معين فهي قبل أن تقوم بإسقاطه بالقوة المادية تسعى إلى تشويهه وإسقاطه كـ “نموذج” يُحتذى ويكتسب الأنصار خارج حدوده الجغرافية؛ كما هو حال النموذج السعودي الذي ربما انتهت مهمته دوليًا وتسعى القوى الإقليمية والدولية المختلفة في الوقت الراهن لإسقاطه واستبدال نماذج أخرى به، وفي سبيل ذلك وصل الأمر إلى مُحاربة الأسرة الحاكمة السعودية ذاتها لهذا النموذج أو بعض مظاهره تمهيدًا لاستبداله بشكل كامل، كما يرى د. “عبدالعزيز” أن ثمة مُحاولات في مرحلة ما بعد إفشال الربيع العربي لإحياء ما يُمكن تسميته بـ “التصوف السياسي” وهو نموذج إسلام سياسي بديل يُعاد إحياؤه إقليميًا ودوليًا ويبدو أن المملكة السعودية سيكون لها يد في إحيائه، وكان من أبرز ملامح هذا النموذج المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا والتي كانت ستفتح بابًا واسعًا أمام “التصوف السياسي” في العالم الإسلامي.

وأشار أ. “مدحت ماهر” في إطار حديثه عن أزمات “الدعوة الوهابية” أن كل الدعوات الإسلام السياسي الحديثة التي لها مؤسس معين تُعاني من إشكالية خطيرة في فهم أتباع هذا المؤسس للدين؛ إذ يعتقدون أن المؤسس قد استوفى الإجابات على كافة التساؤلات الدينية والحضارية والسياسية؛ فتنحصر أفكارهم – ومن ثم حركاتهم – في إطار أفكار هذا المؤسس ومقولاته دون الاعتناء الكافي بنقدها وتجديدها والبناء عليها، وقد وقعت السلفية الوهابية في هذا الأمر حينما أجابت على التساؤلات الحضارية والسياسية بالمقولات الدينية لمحمد بن عبدالوهاب.

كذلك أكد كل من أ. “ماهر” ود. “نادية” على أن إشكالية الفاعلية تعتبر من أهم الإشكاليات التي يطرحها النموذج السعودي؛ فهو نموذج استمر لسنوات طوال ومع ذلك لم يُقدم إسهامًا حضاريًا يُذكر على مستوى “بناء الإنسان” وخدمة العلوم وتقديم نموذج للبلد المسلم الفاعل المستقل سياسيا واقتصاديًا؛ وأنه لم يقم لبناء “دولة” بقدر ما قام لبناء “ملك أسرة”، كما أن عين الأسرة السعودية في بنائها لملكها كانت على الخارج أكثر من الداخل، وكان لهذا الأمر أثر سلبي كبير في فاعلية التجربة وإسهامها الحضاري؛ حتى يمكن اعتبارها نموذجًا مميزًا لتقديم إجابات وافية حول سؤال “كيف تبني نموذجًا إسلاميًا مُغرقًا في التبعية؟!”

***

في اليوم الثاني، أشار د. “أحمد تهامي” إلى قضية جديدة وهي أن أغلب – إن لم يكن كل – حركات التحرر الوطني في العالم الإسلامي انطلقت من خلفيات إسلامية، وإن تبنت مرجعيات مختلفة بعد ذلك، واستشهد بحركة فتح وتأثرها بالإخوان المسلمين في بدايات نشأتها، وكذلك حركة الضباط الأحرار في مصر التي كان للإخوان المسلمين تأثير كبير فيها قبل أن تنقلب عليهم بعد ذلك.

ورأى د. “تهامي” أن التجربة “الإسلامية” في تركيا تتميز عن كافة التجارب الأخرى من حيث طبيعة نشأتها؛ حيث لم يكن نجم الدين أربكان شخصية دينية كغيره من مؤسسي الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وإنما كان رجلًا تكنوقراطيًا انطلق في حركته أساسًا من همومه التنموية والحزبية التقليدية مع تمسكه بالسمت الإسلامي المُحافظ الذي اكتسبه من الطرق الصوفية – خاصة الطريقة النقشبندية – التي هي مصدر التربية الدينية الوحيد للشعب التركي بشكل عام، ولعل ذلك يُفسر لنا نجاح التجربة في المناحي التنموية والمسائل المتعلقة بسياسات إدارة البلاد.

وفي هذا الإطار تساءل د. “محمد وفيق” عن كيفية توظيف الحركة الإسلامية التركية من الثقافة الصوفية السائدة فيها؛ بما يمكن القول أن الحركة الإسلامية في تركيا انطلقت من نمط التدين الشعبي القائم ولم تُعاديه أو تُقدم نمطًا دينيًا خاصًا بها على شاكلة ما قامت به الحركات الإسلامية الأخرى في أغلب بلدان العالم الإسلامي، وهو الأمر الذي سهّل عملية التحام الجماهير بهذه الحركة وعدم تحولها إلى مصدر للقلاقل والاضطرابات في المجال الديني.

وأضاف د. “تهامي” أنه ثمة بعد جغرافي هام في العلاقة بين كل من تركيا ومصر لا ينتبه إليه الكثيرون، وهو أن تركيا تُمثل حدود مصر الشمالية في منطقة شرق المتوسط، وأنه لو حدث تعاون بين البلدين لربما يمكننا القول أن البحر المتوسط سيتحول إلى بحيرة إسلامية كما كان البحر الأحمر قديمًا بحيرة عربية.

وأضافت أ. “شيماء بهاء الدين” عنصر تميز آخر للتجربة التركية يتعلق باهتمامها الكبير بالعمل التنموي والسياسي المحلي الذي أفضى إلى صقل مهارات أعضائها خاصة من الشباب الذين قادوا فيما بعد حزب العدالة والتنمية وأحدثوا عملية تحول نهضوي شامل في تركيا، وهي قضية تلفت الانتباه إلى أهمية صقل مهارات الشباب على مستويات الإدارة وصنع السياسات العامة التي تؤهلهم لأن يكونوا رجال دولة حقيقيين وليسوا فقط قادة مجتمعيين أو دعاة ومتحدثين قادرين على تهييج العوام كما هو حال أغلب أبناء التيارات الإسلامية في العالم العربي.

وبخصوص تحول تركيا إلى النظام الرئاسي والمخاوف بشأن استقرار حالة من الاستبداد في تركيا؛ أكد المستشار “محمد ناجي دربالة” أن النظام الرئاسي في دول العالم الثالث هو منبع الفساد والاستبداد السياسي، وأنه كافح مرارًا أثناء عضويته بالجمعية التأسيسية لدستور 2012 في مصر من أجل إقرار النظام البرلماني، وهو الأمر الذي عرقله اتفاق المجلس العسكري مع القوى السياسية الكبرى – وعلى رأسها الإخوان المسلمون – على النظام الرئاسي، كما أن الأحزاب الأخرى لم تستوعب فكرة النظام البرلماني لترسّخ فكرة السلطة المركزية في نفوس المصريين تبعًا لما يُسمى بـ “نمط الإنتاج الآسيوي” أو “الاستبداد الشرقي” الناتج عن الحياة الزراعية النيلية في مصر.

وفيما يتعلق بتجربة حركة حماس كأحد تجارب الحكم “الإسلامي” القائمة على استخدام القوة، أشار د. “تهامي” إلى قضية هامة تتعلق بحجم التواجد والتأييد المُجتمعي للحركة المُسلحة داخل الإقليم الذي تُسيطر عليه؛ فحركة حماس على الرغم من كون تأييدها أقوى في الضفة الغربية منه في قطاع غزة بالنظر إلى نتائج الانتخابات البرلمانية عام 2006، إلا أن حساسية الضفة الغربية والقدس بالنسبة لإسرائيل جعلتها تُقدم على قمع حماس في الضفة ودعم سلطة فتح من أجل هذا الغرض بكل قوة، خلافًا لقطاع غزة الذي يُعتبر أقل أهمية بالنسبة لإسرائيل، ومن هنا ربما يُمكننا الانتباه إلى مسألة طبيعة المناطق الجغرافية التي يُسيطر عليها الإسلاميون بالنظر إلى مصالح القوى الدولية والإقليمية المختلفة.

وفي السياق ذاته، أشار د. “تهامي” إلى إشكالية كبرى تُثيرها تجربة حركة حماس في حكم قطاع غزة، وهي الإشكالية المُتعلقة بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بشكل كامل عن طريق القوى المُسلحة التي تُسيطر على منطقة جغرافية مُعينة؛ حيث تختلف تفسيرات ورؤى الحركات المُختلفة لمسألة أحكام الشريعة وكيفية تطبيقها في المجتمع والدولة كما تختلف ممارساتها بهذا الشأن، ووفقًا لهذا الاختلاف تتباين مواقف كل من القوى الدولية المُعادية من جهة والقوى السلفية والدينية الأخرى من جهة أخرى؛ حيث تتلقى التجارب التي تتبنى مفاهيم أكثر رحابةً لمسألة تطبيق الشريعة – كما هو حال حركة حماس التي لم تطبق الحدود مثلًا في قطاع غزة – نقدًا وهجومًا شديدين من قِبل التيارات السلفية التي حاولت توجيه ضربات عسكرية لحركة حماس من داخل القطاع أكثر من مرة، وفي المقابل فإن مسألة تطبيق أحكام الشريعة بأشكال أكثر وضوحًا وتحديًا يستدعي تدخلًا دوليًا وهجومًا إعلاميًا وفقدانًا للقدرة على التأثير في أوساط المجتمع المدني الدولي، كما هو حال تجربة مثل طالبان على سبيل المثال، ولعل مسألة الضبط الفكري والأيدلوجي لمثل هذه الإشكالات يُمثل سؤالاً بحثيًا ضخمًا يستدعي جهود الكثير من المفكرين لاستيفائه.

وكذلك تحتاج مثل هذه الحركات لإعادة تعريف نفسها وتوضيح ما إذا كانت حركات مقاومة صاحبة مشروع نضالي مُسلّح هادف إلى إزالة الاحتلال بالأساس، أم حركات سياسية صاحبة مشروع تنموي نهضوي هادف إلى الوصول للسلطة بالأساس؛ حيث يساعد هذه التحديد على تقييم ممارسات هذه الحركات ونتائجها وفهمها بصورة أكبر خلافًا لحالة الغيوم السائدة بشأن موقف تلك الحركات من هذه الثنائية.

وتعليقًا على ذلك، أشار المستشار “محمد ناجي دربالة” إلى إشكالية أخرى تتعلق بطبيعة تجارب الحكم “الإسلامي” أو الإسلام السياسي التي قامت على يد جماعات مُسلحة في ظل حالة حرب شرسة تُحيط بها كما هو حال حركتي طالبان وحماس؛ حيث لا يُمكننا وصف هذه التجارب بكونها تجارب “حكم” خالصة بمعنى تشكيل “دولة” من خلال تحويل القوى السياسية والاجتماعية التي تمتلكها هذه الحركات إلى نُخبة حاكمة في دولة طبيعية، وإنما هي تجارب “إدارة” فقط لمعيشة الناس بشكل يغلب عليه الطابع المؤقت وانتظار نتائج الحروب القائمة، وأكد أن هذه الإشكالية تُعتبر نقطة حاكمة فيما يتعلق بفهم تجارب هذه الحركات وممارساتها في السلطة وتفسير سياساتها.

أثار د. “تهامي” أيضًا إشكالية التأصيل الشرعي للمواقف السياسية؛ وتساءل عن مدى وجوب هذا التأصيل الذي يُضفي قدسية على بعض المواقف التي هي مُتغيرة وفقًا لطبيعة العمل السياسي، وهو ما يُظهر تناقضًا حادًا عند تبدّل هذه المواقف مع اختلاف البيئة السياسية ويستدعي تأصيلَا شرعيًا جديدًا يُثير اتهامات للحركة بشأن التوظيف السياسي للدين وغير ذلك، وهو ما ظهر في الهالة الشرعية التي أحُيطت بموقف حركة حماس من مقاطعة الانتخابات عام 1996 في ظل اتفاقية أوسلو، في مقابل مشاركة الحركة في انتخابات عام 2006 في ظل استمرار الاتفاقية ذاتها، وكان ذلك نابعًا من تغير البيئة السياسية في العام 2006 بشكل يسمح بإدماج حماس والإسلاميين في الحكم بشكل شرعي مقارنة بما كان عليه الحال عام 1996، فما الداعي إذًا للتأصيل الشرعي للموقف السياسي؟ وإن كان هناك داع فكيف يجب أن تكون ملامح هذا التأصيل وما هي حدوده؟

***

في اليوم الثالث، أثارت مناقشة تجربة حزب النهضة في تونس النقاش حول طبيعة التشابه بين الحالتين المصرية والتونسية على كافة المستويات السياسية والاجتماعية؛ نظرًا لتشابه التطور التاريخي في كلا البلدين منذ الاستعمار وتشابه ظروف التحرر وتحولات الحركات السياسية والاجتماعية في داخل كلا البلدين، حيث تساءل د. “محمد وفيق” عن علاقة هذا التشابه بالأبعاد الأنثروبولوجية والتكوين السيكولوجي لكلا الشعبين ودوره في تشابه التطورات التاريخية لكلا البلدين، وفي هذا السياق أشار د. “أحمد تهامي” إلى أن الاتفاق بين الشعبين من حيث التجانس وعدم وجود نزعات قبلية أو طائفية كثيرة – فيما عدا ارتفاع نسبة المسيحيين في مصر عنها في تونس – إلى جانب التشابه في وجود الدولة المركزية الممتدة تاريخيًا في كل من مصر وتونس، أثر على العلاقة بين الحركة الإسلامية في كل من مصر وتونس، حيث شهدت الأخيرة تجاذبات داخلية داخل الحركة الإسلامية بين تيار يرى التمسك بالنمط الإخواني المصري المتأثر بسيد قطب خاصة، وتيار آخر يسعى لخلق نموذج تونسي أو مغاربي خاص ينطلق من أفكار مالك بن نبي، وأضاف أ. “مدحت ماهر” أن هذا التيار المتأثر بمالك بن نبي متأثر أيضًا بعلماء الأزهر المصريين، لاسيما الشيخ محمد الغزالي ود. يوسف القرضاوي، فالتأثير المصري في الحركة الإسلامية التونسية غير منقطع.

وفي سياق الحديث عن التأثير المتبادل بين الحركتين الإسلاميتين في مصر وتونس أكد أ. “مدحت” على تعمّد التونسيين بعد الربيع العربي التأخر عن مصر بخطوة وانتظار ما ستئول إليه الأحداث فيها من أجل اتخاذ قراراتهم، ويدل على ذلك بدء الغنوشي إجراءات المصالحة مع التيار العلماني يوم الخامس عشر من أغسطس عام 2013 أي بعد يوم واحد من فض اعتصام رابعة في مصر، إلى جانب تميز حركة النهضة بوجود قواعد قوية وفاعلة ومؤثرة في صنع القرار استدعت من القيادات أن تأخذها في الحسبان وتعد للانسحاب في حال فشلها، وكذلك تميزت حركة النهضة بـ “فن صناعة التحالف السياسي” الذي فشل فيه الإسلاميون في مصر، إلى جانب تقديم التنازلات في الأوقات المناسبة من أجل امتصاص الغضب في أوقات الاضطراب، وهو ما لم يفعله إسلاميو مصر.

كما أشار أ. “مدحت” إلى ما يتميز به الفكر السياسي المغاربي عن الفكر المشرقي في مسألة العلاقة بين العروبة والإسلام؛ إذ أن القومية العربية تعني التمسك بالإسلام في الوقت ذاته لدى القوميين المغاربة، خلافًا للقوميين العرب الذين يدعو أكثرهم إلى قومية لا إسلام فيها، ولا تظهر أزمة العلاقة بين العروبة والإسلام إلا في المشرق.

وعبّر نموذج البوسنة والهرسك في عهد علي عزت بيجوفيتش عن سؤال جديد من أسئلة “إسلامية الدولة” التي تختلف من سياق لآخر ومن تجربة لأخرى؛ حيث رأى أ. “مدحت ماهر” أن الدعوة الأساسية لبيجوفيتش كانت تحقيق الاستقلال لدولة البوسنة كدولة قومية مستقلة، وهي دعوة على قوميتها في الظاهر إلا أنها كانت تستبطن مفهومًا للإسلامية يتضمن قضايا الحفاظ على الوجود وإعطاء مساحة لتجديد الهوية في ظل حالة الانهيار الحضاري والتواجد في محيط أوربي غير مسلم.

واستكمالًا للفكرة أكد د. “محمد وفيق” على ضرورة الفصل بين أفكار بيجوفيتش وتجربته العملية في إدارة الدولة؛ فلا يمكن محاكمة ممارساته في الإدارة إلى أفكاره الإسلامية التي عبر عنها في كتبه؛ حيث فرض عليه الواقع مشروعًا سياسيًا واقعيًا يختلف عن الأطروحة الفكرية التي تحدث عنها في كتاباته خاصة كتاب الإعلان الإسلامي، كما أشار إلى جانب مهم تثيره تجربة بيجوفيتش حول تكوين الجيش البوسني بالبعد الأُممي، حيث استطاع بيجوفيتش إدماج المجاهدين العرب واحتوائهم داخل المنظومة العسكرية البوسنية، وهو ما منحها قوة كبيرة وبسالة شديدة في المقاومة.

ويرى أ. “مدحت ماهر” أن بيجوفيتش ينطلق في ممارساته من فكره المتميز للغاية والذي عبر عنه في كتابه الفريد “الإسلام بين الشرق والغرب”؛ هذا الفكر الذي يجعل الإنسان المسلم قادرًا على أن يعيش في أحوال تمكين يكون فيه الإسلام كل شيء، وقادرًا كذلك على أن يعيش بكامل إسلامه في أحوال استضعاف شديدة جدًا، كما أن عرضه للعقيدة وللقيم الإسلامية يقبله غير المسلم ويشعر فيه المسلم بجمال الإسلام؛ وكانت أفكاره هذه ذات قوة استيعابية عالية مكنته من التعامل مع واقعه بحنكة وقدرة فائقة؛ حيث تمكن من تحويل القيم المشتركة بينه وبين غيره إلى مؤشرات منضبطة يمكن الالتقاء من خلالها على مشروع سياسي واجتماعي واقعي، وأشار إلى أهمية كتاب “مدخل القيم” للدكتور سيف الدين عبد الفتاح كمدخل مهم لدراسة فكرة القيم وكيفية تفعيلها وأهميتها في بناء أطر مفاهيمية للعمل المشترك بين المختلفين.

***

في اليوم الرابع، أثار النموذج الإيراني إشكالية أخرى متعلقة بمسألة “التوحّد مع الوصف”؛ حيث أشار د. “شريف عبدالرحمن” إلى تلك التجارب التي تظهر وتعتبر نفسها هي “الإسلامية” وليس مجرد أن تعتبر نفسها منطلقة من المرجعية الإسلامية أو ساعية لتفعيل قيم الإسلام في تدبير الشأن العام، ولكن أن تعتبر نفسها هي المحقق “الوحيد” لوصف “الإسلامي”، بل وتكون معول هدم لغيرها من المشروعات والتجارب التي ترفع الراية الإسلامية؛ فجمهورية إيران “الإسلامية” كانت سببًا رئيسيًا لانهيار تجربة طالبان “الإسلامية” بالتحالف مع الولايات المتحدة التي تسميها الأولى “الشيطان الأكبر”، وهذا التناقض يعتبر إشكالًا بحثيًا يستدعي التفكير فيه، ويؤكد د. شريف أن مجرد الخلافات الظاهرة بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة لا تكفي للقول بأن إيران تقدم معارضة هيكلية للنظام الدولي المُهيمن عليه غربيًا، ولا يمكن القول في الوقت ذاته أنها مجرد مسرحيات تخفي وراءها تلاعبًا وتعاونًا خفيًا، ولكن الأصح النظر إلى هذه الخلافات بحسب الدرجات المختلفة للخلاف ومدى عمق هذه الخلافات واقترابها أو ابتعادها من السطح.

وأكد د. “شريف” أن التجربة الإيرانية كما التجربة السعودية نشأت في الخارج، وأن الخارج الذي نشأت في كنفه هو ذاته القابل لاستمرارها حتى الآن، وأنه متى أراد إسقاطها فسينجح في ذلك، وأن هذا حال كل تجارب الحكم الإسلامي التي ينجح الخارج في إسقاطها متى قرر أنها تتعارض مع مصالحه.

وعلّق أحد الباحثين من الحضور على هذا الطرح قائلًا بأنه ثمة بعض التجارب التي تظهر في سياق دولي داعم أو موظّف لها، ثم تشهد مع الوقت حالة من القوة والرسوخ يصعب معه إزاحتها ولو بات وجودها مهددًا للمصالح الغربية بدرجة أو بأخرى، وأن التجربة التركية تُعد نموذجًا على ذلك، فيما أكد د. “شريف” أن القوى الكبرى امتلكت زمام علم نفس الشعوب الذي يُمكن من تحريكها أو تهدئتها من خلال الإعلام وفقًا لمصالحهم، ومع ذلك أكد أنه لا يجب أن نعتقد في هذه الدول الكبرى القدرة المطلقة، لأن الكون خاضع في النهاية لسنن لا تتبدل.

وأضاف د. “شريف” أن التجربة الإيرانية تثير إشكالية “الملحمة والسياسة”؛ فالملحمة هي تلك المظلمة التاريخية التي يستند إليها أصحابها في المطالبة بوجود كيان سياسي مستقل لهم، وهي ما تستند إليها إسرائيل فيما يتعلق بـ “الهولوكوست”، وما تستند إليها إيران فيما يتعلق باستشهاد الحسين عليه السلام والاضطهاد التاريخي للشيعة، والمشكلة في هذا النمط هي أن أصحاب الملحمة لا يرضيهم أي تمدد تعويضي، فهم يشعرون دائمًا أن مآسيهم أكبر من أي تعويضات يحصلون عليها، فيطالبون بالمزيد دائمًا حتى يبتلعوا كل من عاداهم.

وأشار م. “حسن الرشيدي” إلى قضية تحول النظرة الجمعية لأغلب شعوب البلدان العربية إلى التجربة الإيرانية عقب الثورات العربية؛ فبعد أن كان السلفيون وحدهم يُعادونها ولا يتحمسون لتأييدها في مواجهاتها المُعلنة مع إسرائيل بدوافع اعتقادية بالأساس، أصبحت قطاعات واسعة من التيارات الإسلامية وغيرها تنظر للدور الإيراني في المنطقة على أنه دور سلبي بعد ظهور البُعد الطائفي في سياساتها بجلاء تجاه الثورة السورية وأدوارها المُخزية في العراق واليمن وغيرها، وهي قضية تُحيلنا إلى التفكير بنموذج السياسات الإقليمية لنموذج الحكم “الإسلامي” وتأثير هذه السياسات على التجربة كـ “نموذج” يُنظر إليه بعين الاعتبار في أوساط عربية وإسلامية كثيرة.

***

في اليوم الخامس، أثار الحديث عن تجربة جماعة أنصار الدين في مالي وتمحورها حول قبائل الطوارق ولغتها الأمازيغية الانتباه إلى “الأبعاد الثقافية والأنثربولوجية” في تجارب الحكم التي تبنت المرجعية الإسلامية؛ حيث أشارت د. “حورية مصطفى” إلى ضرورة الانتباه لهذه الأبعاد واعتبارها أحد مداخل النظر في تجارب الحكم “الإسلامي” المختلفة؛ إذ يرتبط كثير من هذه التجارب في جوهرها بقضايا عرقية وقبلية وثقافية ربما أكثر من ارتباطاتها الأيدلوجية؛ فالطوارق في مالي يتحدثون اللغة الأمازيغية ويحافظون عليها ترسيخًا للحواجز الثقافية بينهم وبين باقي المناطق والتكوينات العرقية.

وفي هذا السياق أشار أحد الباحثين من الحضور إلى دور الاستعمار في وضع بذور هذه الأزمات الثقافية داخل الدول المُستقلة عن الاستعمار؛ حيث لم تراع القوى الاستعمارية الكبرى أثناء تنافسها للسيطرة على أكبر قدر من موارد أفريقيا قضية الانسجام العرقي والثقافي عند تقسيم الأراضي المستعمرة؛ فاجتمعت تكوينات ثقافية وعرقية مختلفة ومتنافرة تحت مظلة دول “وطنية” تتكون من أرض وشعب وحكومة يعترف بها المجتمع الدولي دون النظر للتباين الثقافي والعرقي الكبير الموجود داخل حدود هذه الدول والذي من شأنه أن يجعل استقرارها واستقلالها ونهوضها ضربًا من المستحيل.

وبالحديث عن تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال أُثير الانتباه إلى قضية التفاعلات المجتمعية العرفية المستقلة عن الدولة وأهميتها في بناء تجارب جديدة للحكم خاصة في حالات انهيار الحكومات وسقوط البلاد في مستنقع الفوضى؛ حيث قالت د. “حورية” إن المحاكم الإسلامية في الصومال مثّلت حالة من العودة للأحكام العرفية بين القبائل الصومالية بعد انهيار نظام سيد بري، وكانت هذه العودة – التي بدأت على مستويات قبلية محلية محدودة – نواة لبناء نظام حكم جديد يشمل جميع مناطق الصومال التي وقعت في الفوضى.

ومن هنا أشار د. “محمد وفيق” إلى قاعدة يمكن استخلاصها من نقاشات العديد من التجارب، وهي أن تعاظم الدور الاجتماعي لمجموعة تنظيمية أو شبكات فكرية معينة يؤدي غالبًا إلى مطالبة هذه المجموعات والشبكات بممارسة دور سياسي مباشر تبعًا لفاعليتها الاجتماعية المتعاظمة، وأن هذه القاعدة تظهر بوضوح في تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال التي بدأها طلاب العلم الشرعي بالتعاون مع القبائل الصومالية وأنظمتها العرفية.

***

وفي اليوم السادس، أثار الحديث عن التجربة السودانية قضية عامل تدين الشعب ودوره في إيصال الإسلاميين إلى الحكم واستقرارهم فيه، فبينما رأى أحد الباحثين من الحضور أن الشعب السوداني شعب متمسك بالدين بصورة كبيرة، وأن لذلك دورًا كبيرًا في توفير الظهير الشعبي والمجتمعي الداعم للإسلاميين أثناء مساعيهم للوصول للسلطة والتأثير فيها، قالت د. “حورية مصطفى” إنه لا يجب الاستسهال في إطلاق صفة “التدين” على الشعوب المختلفة، بل إن مثل هذا القول يستلزم القياس العلمي بمعايير محددة، وأن هذه المعايير تختلف من مكان لآخر ومن توجه فكري لآخر، فبينما الشائع في مصر وغيرها من الدول أن الشخص المتدين هو ذلك الملتزم بالزي الإسلامي سواء كان الحجاب أو النقاب للمرأة أو الجلباب واللحية للرجل، فإن هذه المظاهر لا نجدها في السودان إلا في فئة قليلة، بينما غالب السودانيات يرتدين “الثوب السوداني” الذي لا يعتبر – وفق النظرة السابقة – معيارًا كافيًا للتدين، كما أن السمة الغالبة على التدين السوداني هو التصوف الذي لا يهتم كثيرًا بالقضايا الظاهرية قدر اهتمامه بالجوانب الروحانية.

وفي هذا السياق أشار د. “محمد وفيق” إلى إشكالية كبيرة تقع فيها الكثير من التيارات الإسلامية التي تعتمد على “تدين” الشعوب لضمان تأييد مواقفها ورؤاها السياسية؛ مؤكدًا أن هذه الرؤية رؤية مضللة إلى حد بعيد، كما أشار كذلك إلى اختلاف معايير وأنماط التدين من بلد لآخر؛ حيث يختلف التدين التركي بصورة كبيرة عن التدين الذي نعرفه في بلدان المشرق العربي، وهو تدين تصوفي ربما على غرار التدين السوداني.

وختم د. “وفيق” بملاحظة أن كثيرًا من التيارات التي تبنت المرجعية الإسلامية بصورها المختلفة قد نجحت في الوصول للحكم بطرق مختلفة سواء عبر تجارب حزبية انتخابية أو تجارب دول وممالك متكاملة أو تجارب حركات التمرد المُسلح، إلا أن أغلبها قد  فشل في “الأداء المؤسسي” على صعيد سياسات إدارة الشأن العام بمستوياته المختلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، وأن نموذجًا “إسلاميًا” للحكم وإدارة الشأن العام لم تتمكن مختلف هذه التجارب من تقديمه منذ سقوط الخلافة العثمانية.